فصل: نكبة الفضل بن مروان.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.بناء سامرا.

كان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحرف بمصر وسماهم المطاربة وقوما من سمرقند وأشر وسنة وفرغاونة وسماهم الفرغانة وأكثر من صبيانهم وكانوا يركضون الدواب في الطرق ويختلفون بها ركضا فيصدمون النساء والصبيان فتتأذى العامة بهم وربما انفرد بعضهم فقتلوه وتأذى الناس ونكروه وربما اسمعوا النكير للمعتصم فعمد إلى بناء القاطون وكانت مدينة بناها الرشيد ولم يستتمها وخربت فجددها المعتصم وبناها سنة عشرين وسماها سر من رأى فرخمها الناس سامرا وسارت دارا لملكهم من لدن المعتصم ومن بعده واستخلف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق.

.نكبة الفضل بن مروان.

كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقابي واتصل به الفضل بن مروان وهو من البردان وكان حسن الخط فلما هلك الجرمقابي استكتبه المعتصم وسار معه إلى الشام فأثرى ولما استخلف المعتصم استولى على هواه واستتبع الدواوين واحتجر الأموال ثم صار يرد أوامر المعتصم في العطايا ولا ينفذها واختلفت فيه السعايات عند المعتصم ودسوا عليه عنده من ملأ مجلسه ومساخره من يعير المعتصم باستبداده عليه ورد أوامره فحقد له ذلك ثم نكبه سنة عشرين وصادره وجميع أهل بيته وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات وغرب الفضل إلى بعض قرى الموصل قد تقدم لنا حديث بابك الخرمي محاربة بابك الخرمي وظهوره سنة اثنتين ومائتين بدعوة جاوندان بن سهل واتخذ مدينة البر لامتناعه وولى المأمون حروبه فهزم عساكره وقتل جماعة من قواده وخرب الحصون فيما بين أردبيل وزنجان فلما ولي المعتصم بعث أبا سعيد محمد بن يوسف فبنى الحصون التي خربها وشحنها بالرجال والأقوات وحفظ السابلة لجلب الميرة وبينما هو في ذلك أغارت بعض سرايا بابك بتلك النواحي فخرج في طلبهم واستنفد ما أخذوه وقتل كثيرا وأسر أكثر وبعث بالرؤوس والأسرى إلى المعتصم وكان ابن البعيث أيضا في قلعة له حصينة من كور أذربيجان ملكها من يد ابن الرواد وكان يصانع بابك ويضيف سراياه إذا مروا به ومر به في هذه الأيام قائده عصمة وأضافه على العادة ثم قبض عليه وقتل أصحابه وبعث به إلى المعتصم فسأله عن عورات بلاد بابك فدله عليها ثم حبسه وعقد لقائده الأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ووجهه لحرب بابك فسار إليها ونزل بساحتها وضبط الطرقات ما بينه وبين أردبيل وأنزل قواده في العساكر مابينه وبين أردبيل يتلقون الميرو من أردبيل من واحد إلى الآخر حتى تصل عسكر الأفشين وكان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن إحسان بابك إليه فيضاعفه ويطلقه ثم إن المعتصم بعث بغا الكبير بمدد الأفشين بالنفقات وسمع بابك فاعتزم على اعتراضه وأخبر الأفشين بذلك بعض جواسيسهم فكتب إلى بغا أن يرتحل من حصن النهر قيلا ثم رجع إلى أردبيل ففعل ذلك وجاءت الأخبار إلى بابك وركب الأفشين في يوم مواعدته لبغا واغذ المسير خرجت سرية بابك فلقيت قافلة النهر ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم المال ولقوا في طريقهم الهيثم من قواد الأفشين فهزموه وامتنع بحصنه ونزل بابك عليه يحاصره وإذا بالأفشين قد وصل فأوقع بهم وقتل الكثير من جنده نجا بابك إلى موقان وأرسل إلى عسكره في البر فلحقت به وخرج معهم من موقان إلى البذ ولما رجع الأفشين إلى عسكره استمر على حصار بابك وانقطعت عنه الميرة من سائر النواحي ووجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك فأخذوها ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرقه في العساكر وأمر الأفشين قواده فتقدموا ليضيقوا الحصار على بابك في حصن البذ نزل على ستة أميال منه وسار بغا الكبير حتى أحاط بقرية البذ وقاتلهم وقتلوا منهم جماعة فتأخر إلى خندق محمد بن حميد من القواد وبعث إلى الأفشين في المدد فبعث إليه أخاه الفضل وأحمد بن الخليل بن هشام وأبا خوس وصاحب شرطة الحسن بن سهل وأمره بمناجرتهم إلى حرب في يوم عينه له فركبوا في ذلك اليوم وقصدوا البذ وأصابهم برد شديد ومطر وقاتل الأفشين فغلب من بازائه من أصحاب بابك واشتد عليهم المطر فنزلوا واتخذ بغا دليلا أشرف به على جبل يطل منه على الأفشين ونزل عليهم الثلج والضباب فنزلوا منازلهم وعمد بابك إلى الأفشين ففض معسكره وضجر أصحاب بغا من مقامهم في رأس الجبل فارتحل بهم ولا يعلم ما تم على الأفشين وقصد حصن البذ فتعرف خبر الأفشين ورجع على غير الطريق الذي دخلوا منه لكثرة مضايقة وعقباته وتبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه وأجنهم الليل وخافوا على أثقالهم وأموالهم فعسكر بهم بغا من رأس جبل وقد تعبوا وفنيت أزوادهم وبيتهم بابك ففضهم ونهبوا ما كان معهم من المال والسلاح ونجوا إلى خندقهم الأول في أسفل الجبل وأقام بغا هنالك وكان طرخان كبير قواد بابك قد استأذنه أن يشتوا بقرية في ناحية مراغة فأرسل الأفشين إلى بعض قواده بمراغة فأسرى إليه وقتله وبعث برأسه ودخلت سنة اثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفر الخياط بالعساكر مددا للأفشين وبعث إيتاخ بثلاثين ألف ألف درهم لنفقات الجند فأرسلها وعاد ورحل الأفشين لأول فصل الربيع ودنا من الحصن وخندق على نفسه وجاءه الخبر بأن قائد بابك واسمه أدين قد عسكر بازائه وبعث عياله إلى بعض حصون الجبل فبعث الأفشين بعض قوداه لاعتراضهم فسلكوا مضايق وتملقوا وأغاروا إلى أن لقوا العيال فأخذوهم وانصرفوا وبلغ الخبر أدين فركب لاعتراضهم وحاربهم واستنفذ بعض النساء وعلم بشأنهم الأفشين من علامات كان أمرهم بها إن رأى بهم ريبا فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق ونجا القوم وتقدم الأفشين قليلا قليلا إلى حصن البذ وكان يأمر الناس بالركوب ليلا للحراسة خوف البيات فضجر الناس من التعب وارتاد في رؤوس تلك الجبال أماكن يتحصن فيها الرجالة فوجد ثلاثة فأنزل فيها الرجالة بأزوادهم وسد الطرق إليها بالحجارة وأقام يحاصرهم وكان يصلي الصبح بغلس ثم يسير زحفا ويضرب الطبول الناس لزحفه في الجبال والأودية على مصافهم وإذا أمسك وقفوا وكان إذا أراد ان يتقدم المضيق الذي أتى منه عام أول خلف به عسكرا على رأس العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرسة منه عليهم وكان بابك متى زحفوا عليه كمن عسكرا تحت تلك العقبة واجتهد الأفشين أن يعرف مكان الكمين فلم يطق وكان يأمر أبا سعيد وجعفرا لخياط وأحمد بن الخليل بن هشام فيتقدمون إلى الوادي في ثلاثة كراديس ويجلس على تلك ينظر إليهم وإلى قصر بابك ويقف بابك قبالته في عسكر قليل وقد أكمن بقية العسكر فيشربون الخمر ويلعبون بالسرياني فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروز مصافا بعد مصاف الأقرب إلى العدو ثم الذي يليه وآخرين ترجع العسكر الذي عقبه المضيق حتى ضجرت الخرمية من المطاولة وانصرف بعض الأيام وتأخر جعفر فخرج الخرمية من البذ على أصحابه فردهم جعفر على أعقابهم وارتفع الصياح ورجع الأفشن وقد نشبت الحرب وكان مع أبي دلف من أصحاب جعفر قوم من المطوع فضيقوا على أصحاب بابك وكانوا يصدعون البذ وبعث إلى الأفشين يستمده خمسمائة راجل من الناشبة فأتى له وأمره بالتحيل في الإنصراف وتعلق أولئك المطوعة بالبذ وارتفع الصياح وخرج الكمناء من تحت العقبة وتبين الأفشين أماكنهم وأطلع على خدعتهم وانصرف جعفر إلى الأفشين وعاتبه فاعتذر إليه يستأمن الكمين وأراه مكانه فانصرف عن عتابه وعلم أن الرأي معه وشكا المطوعة ضيق العلوفة والزاد فأذن لهم في الإنصراف وتناولوه بألسنتهم ثم طلبوه في المناهضة لهم ووداعهم ليوم معلوم وجهز وحمل المال والزاد والماء والمحامل لجرجان وتقدم إلى مكانه بالأمس وجهز العسكر على العقبة على عادته وأمر جعفرا بالتقدم بالمطوعة وان يأتوا من أسهل الوجوه وأطلق يده بمن يريده من الناشبة والنفاطين وتقدم جعفر إلى مكانه بالأمس والمتطوعة معه فقاتلوا وتعلقوا بسور البذ حتى ضرب جمعهم ما به وجاء الفعلة بالفؤس وطيف عليهم بالمياه والأزودة ثم جاء الخزمية من الباب وكسروا على المطوعة وطرحوهم على السور ورموهم بالحجارة فنالت منهم وضعفوا عن الحرب ثم تحاجزوا آخر يومهم وأمرهم الأفشين بالأنصراف وداخلهم اليأس من الفتح تلك السنة وانصرف أكثر المطوعة ثم عاود الأفشين الحرب بعد أسبوعين وبعث من جوف الليل ألفا من الناشبة إلى الجبل الذي وراء البذ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على الخرمية وبعث عسكرا آخر كمينا تحت ذلك الجبل الذي وراء البذ وركب هو من الغداة إلى المكان الذي يقف فيه على عادته وتقدم جعفر الخياط والقواد حتى صاروا جميعا حول ذلك الجبل فوثب بابك من أسفل الجبل بالعسكر الذي جاء إليه لما فضحهم الصبح وانحدر الناشبة من الجبل وقد ركبوا الأعلام على رماحهم وقصدوا جميعا أدين قائد بابك في جفلة فانحدر إلى الوادي فحمل عليه جماعة من أصحاب القواد فرمى عليهم الصخور من الجبل وتحدرت إليهم ولما رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذ وبينما هم في ذلك إذ جاء الخبر إلى الأفشين بدخول البذ وأن الناس صعدوا بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل واديا هنالك وأحرق الأفشين قصور بابك وقتل الخرمية عن آخرهم وأخذ أمواله وعياله ورجع إلى معسكره عند المساء وخالفه بابك إلى الحصن فحمل ما أمكنه من المال والطعام وجاء الأفشين من الغد فهدم القصور وأحرقها وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم بإذكاء العيون عليه في نواحيهم حتى يأتوه به ثم عثر على بابك بعض العيون في واد كثير الغياض يمر من أذربيجان إلى أرمينية فبعث من يأتي به فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض والشجر وجاء كتاب المعتصم بأمانه فبعث به الأفشين بعض المستأمنة من أصحاب بابك فامتنع من قبوله وقتل بعضهم ثم خرج من ذلك الوادي هو وأخوه عبد الله ومعاوية وأمه يريدون أرمينية ورآهم الحرس الذين جاؤا لأخذه وكان أبو السفاح هو المقدم عليهم فمروا قي اتباعهم وأدركوهم على بعض المياه فركب ونجا وأخذ أبو السفاح معاوية وأم بابك وبعث بهم إلى الأفشين وسار بابك في جبال أرمينية مختفيا وقد أذكوا عليه العيون حتى إذا مسه الجوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم فعثر به بعض المسلحة وبعث إلى سهل بن ساباط فجاء واجتمع بصاحب بابك الذي كانت حراسة الطريق عليه ودله على بابك فأتاه وخادعه حتى سار إلى حصنه وبعث بالخبر إلى الأفشين فبعث إليه بقائدين من قبله وأمرهما بطاعة ابن ساباط فأكمنهما في بعض نواحي الحصن وأغرى بابك بالصيد وخرج معه فخرج القائدان من الكمين فأخذاه وجاء به إلى الأفشين ومعهما معاوية بن سهل بن ساباط فحبسه ووكل بحفظه وأعطى معاوية ألف درهم وآتى سهلا ألف ألف درهم ومنطقة مفرقة بالجواهر وبعث إلى عيسى بن يوسف أسطقانوس ملك البيلقان يطلب منه عبد الله أخا بابك وقد كان لجأ إلى حصنه عندما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه وحبسه الأفشين مع أخيه وكتب إلى المعتصم فأمره بالقدوم بهما وذلك في شوال من سنة اثنتين وعشرين وسار الأفشين بهما إلى سامرا فكان يلقاه في كل رحلة رسول من المعتصم بخلعة وفرس ولما قرب من سامرا تلقاه الواثق وكبر لقدومه وأنزل الأفشين وبابك عنده بالمطيرة وتوج الأفشين وألبسه وشاحين ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في عسكره وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين وجاء أحمد ابن أبي داود إلى بابك متنكرا وكلمه ثم جاء المعتصم أيضا متنكرا فرآه ثم عقد من الغد واصطف النظارة سماطين وجيء ببابك راكبا على فيل فلما وصل أمر المعتصم بقطع أطرافع ثم بذبحه وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب شلوه بسامرا وبعث بأخيه عبد الله إلى إسحق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك ففعل وكان الذي أنفق الأفشين في مدة حصاره لبابك سوى الأرزاق والأنزال والمعاون عشرة آلاف ألف درهم يوم ركوبه لمحاربته وخمسة آلاف يوم قعوده وجميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف وخمسة وخمسين ألف وهزم من القواد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد ابن الجنيد وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلثمائة والذي استنفده من يديه من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسان جعلوا في حظيرة فمن أتى من أوليائهم وأقام بينة على أحد منهم أخذه والذي صار في يد الأفشين من بني بابك وعياله سبعة عشر رجلا وعشرين امرأة.